January 4, 2011
صحيح نحن هنا لسنا أمام عمل أدبي من نسيج الخيال الخالص، بحيث نتوقع انفلات الشخصيات التام من رقابة الكاتب أو الروائي أو القاص سواء بصورة تدريجية، أو عبر ثورة عارمة، أو بطريقة عفوية، أو من باب الصدفة، أو من خلال انغماس وغرق وذوبان الراوي المطلق في المروي لدرجة التفاني والتلاشي، ولكن نحن هنا أمام عمل تاريخي وسياسي واقتصادي وثقافي مسرود في قالب أدبي، لا يستخلص من ذلك بأننا أمام إنتاج لا يلجأ أو يستخدم الخيال، بل كل مافي الأمر إن الخيال هنا وسيلة وليس غاية. وعليه فلا غرابة إذا ما تم توظيفه لاداء مهمة محددة للغاية، ألا وهي خدمة العمل الأدبي بكل أبعاده.
اعتمد الكاتب على عدة شخصيات لبلورة القضايا التي تناولها، فيعتبر إدريس محمد صالح جابر شخصيته المحورية، ويحرص على أن نتعرف عليه ويعرفنا من خلاله بصورة فنية وغير مباشرة عن الوضع العام في إرتريا بقوله “لم يكن إدريس الإبن البكر للشيخ محمد صالح يفقه ما يرويه والده من سياسة مصادرة الأرض … التوطين … والإيطاليين نظرا لصغر سنه، اذ لم يكن قد بلغ الثانية عشر من عمره، وقصر مداركه. وكل همه كان منصبا في كيفية إجادة لعبة “البيب” و “القرشبع” … بهدف التفوق على اقرانه، والتباهي أمام والده وأعمامه. إلا إن إدريس ومن ناحية ثانية كانت تستهويه الحكايات الشعبية التي كانت ترويها له جدته حليمة، مثل حكاية “الراعي والغنم والذئب” وحكاية “سهيل الذي كان يبحث عن خطيبته التي اختطفها عملاء الرقيق”. وكان شديد الإعجاب بجسارة “سهيل” في مقاومة الأشرار.
وهكذا يأخذ الكاتب بتلابيب يدنا لكي نتوقف ونرصد حقيقة وطبيعة شخصيته المحورية التي تتحلى بالواقعية، وتكاد سماتها الأساسية تنسحب على كل أطفال إرتريا عامة، وتنطبق على وجه الدقة على أطفال مدينة مصوع والقرى المحيطة بها، ويعزي ذلك لكون إدريس محمد صالح هو أحد أبناء قرية حليب الخيالية الواقعة على بعد بضعة كيلومترات من ميناء مصوع. ومع نمو وتبلور شخصية إدريس وصديقيه اسماعيل عمريت وحقوص ارعدوم تنمو وتتبلور الأحداث السياسية الكبيرة التي عصفت بإرتريا، ونقصد بها قدوم المستعمر الإيطالي الى إرتريا في نهاية القرن التاسع عشر، والحقبة الفاشية من العهد الإستعماري الإيطالي، ودخول إرتريا تحت الإنتداب البريطاني بعد نهاية الحرب الكونية الثانية، ونسج خيوط المؤامرة الفيدرالية بين إرتريا وأثيوبيا من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، وتفارخ الأحزاب السياسية الإرترية وادارة صراعاتها الداخلية من قبل القوى الدولية، لمحاصرة وخنق وإجهاض المشروع الوطني الإرتري، وفشل القوى الوطنية الإرترية في تعرية وإحباط المخططات الدولية والإقليمية من ناحية، وعدم قدرتها على لملمة القوى الوطنية الإرترية وتوحيد شمل الصف الوطني الإرتري بصهره في بوتقة مشروع وطني واحد، بغية العبور بسفينة الوطن، في وسط كل تلك الأمواج المتلاطمة، الى بر الأمان.
ففي ظل هذه الظروف وتلك المعطيات لا عجب إذا ما خلت الساحة الإرترية للسلطات الأثيوبية من أي حسيب ورقيب من قبل اي طرف من الأطراف الدولية والتي كان بالأساس من العبث الرهان عليها وعلى دورها في هذا الصدد بأي حال من الأحوال، بحكم إنها عمليا هي التي حاكت المؤامرة السياسية القاضية بمصادرة حق الشعب الإرتري الشرعي والمشروع في تقرير المصير، على غرار بقية المستعمرات الإيطالية في القارة السمراء، اي ليبيا والصومال. فغدت أثيوبيا الإمبراطورية رويدا رويدا تتمادى في انتهاك بنود ونصوص الإتحاد الفيدرالي، وتزامن ذلك مع تخييم شبح عدم الإطمئنان والإستقرار، بعد ما بث رجال الأمن الأثيوبيين وعملائهم الخوف والقلق والهلع في شتى أرجاء البلاد، وأضحوا يزجون بعشوائية في غياهب السجون المكفهرة والكئيبة كل مواطن إرتري لا لجريمة اقترفها، وانما لمجرد الشك في كونه عنصرا وطنيا، ثم الشروع في ممارسة ابشع وافظع أشكال التعذيب البدني والنفسي ضده. ففي ظل سيادة هذه الأجواء السياسية المأزومة والمتأزمة، لا غرابة إذا ما سقط إدريس وحقوص واسماعيل في حبائل عناصر الأمن الأثيوبية التي كانت تتعقب تحركاتهم وترصد سكناتهم وتتابع نشاطاتهم الوطنية المناهضة لربط إرتريا بسلسلة الفيدرالية مع أثيوبيا، فما بالك إذا كان الأمر يتعلق بإذابة الهوية الإرترية في الكيان الإثيوبي.
وهكذا ذاق الأصدقاء الثلاثة وعلى مدار سبعة اشهر كاملة الأمرين في سجون أثيوبيا التي بارحوها ذات يوم من أيام شهر يوليو عام 1956م ليعانقوا شعاع شمس الحرية المقيدة، وليلاحظوا بان الحياة الإقتصادية ازدادت ترديا وتدهورا بحيث أمست لا تطاق، هذا علاوة على إدراكهم بأنهم ومنذ فجر خروجهم من السجن يوجدون تحت قيد المراقبة الدائمة المرهقة عصبيا والمنهكة نفسيا.
جملة هذه الظروف السياسية والإقتصادية جعلت إدريس وحقوص واسماعيل في التفكير في هجرة الوطن الى السودان بغية توفير لقمة عيش شريفة وآمنة من ناحية، ولكي يواصلوا نضالهم السياسي ضد أثيوبيا من ناحية أخرى. وهكذا اختلق إدريس حيلة الذهاب إلى مدينة كرن للمشاركة في عرس أحد أقربائه، ولم يمكث فيها إلا سويعات معدودة وذلك حتى لا يكشف أمره، فغادرها على وجه السرعة قاصدا مدينة اغوردات، قبل أن يستقر به المقام بمدينة كسلا السودانية بعد رحلة ماراتونية مشوبة بمشاعر الخوف والقلق من جانب، ومحفوفة بتباشير أمل كبير في بداية حياة جديدة وطرق أبواب مواصلة النضال بأسلوب مختلف من جانب آخر.
ولم يبقى إلا التنويه إلى أن الأخ الأمين محمد سعيد لم يعتمد في عمله الأدبي الجديد على شخصية واحدة تروي الأحداث الكبيرة منها والصغيرة كما هو الحال في بعض الروايات الأحادية البعد والأفق، وانما وعلى عكس ذلك خلق سيمفونية رائعة وخلابة بين الشخصية المحورية، إدريس محمد صالح، والشخصيتين الأساسيتين في حقوص ارعدوم واسماعيل عمريت، وشخصيات عامة وأخرى عرضية مثل الشيخ محمد صالح جابر وزوجته ملوك عبدالقادر وترحس وفاطمة ولؤول ونجاش… الخ، وكل تلكم الشخصيات تملك مبرر وجودها في سياق مجريات تطورات الأحداث التي تسلط عليها الأضواء الساطعة في معظم الأحيان، وتلقي عليها بظلالها المواربة في بعض الحالات.
والمهم في الأمر، ان هذه الشخصيات تكشف بدورها ليس عما يختلج في صدرها، أو ما يدور في ذهنها، أو ما يتفاعل في نفسها فقط، بقدر ما تم أيضا توظيفها من قبل الكاتب في سبر أغوار العادات والتقاليد الإرترية انطلاقا من مجريات الأمور اليومية العادية في أسرة إدريس في السهول الشرقية وترحس في المرتفعات الوسطى، ومراسيم الزواج التي أبدع الكاتب في رصدها بصورة ممتعة ومبدعة وغاية في الدقة، وتوغل وتغلغل في جزئيات تفاصيلها الدقيقة إلى ابعد الحدود، بما يوحي برسم صورة حية وناطقة عن سريان وتدفق المشاهد وانسيابها بسلاسة وتألق واحكام. وهذا يدل وبصورة ناصعة، بان الكاتب يملك موهبة وكفاءة وناصية تقديم عمل أدبي يملك مبرر وجوده في ذاته، ولا يكون طافحا بعبء التاريخ وتموجات السياسة ولا حافلا بقضايا الإقتصاد وإشكاليات الثقافة، وقد يكون ذلك إحدى مفاجآت الأخ الأمين محمد سعيد الأدبية القادمة.