August 12, 2013
بقلم: د.أحمد حسن دحلي
شكل إشعال كوكبة من أبناء ارتريا الأشاوس لشرارة الكفاح المسلح في أول سبتمبر من عام 1961 بقيادة الشهيد البطل حامد إدريس عواتي، منعطفا تاريخيا فاصلا في المسيرة التاريخية للشعب الارتري، بحيث يمكن القول بأن هذا المنعطف التاريخي لا يعدو أن يكون في جوهر الأمر نهاية مرحلة تاريخية وبداية مرحلة تاريخية وفاتحة مرحلة تاريخية مستقبلية. فكما هو معروف لدى معشر الارتريين ولدى الذين لهم إحاطة عامة بتاريخ ارتريا المعاصر، بأن الشعب الارتري كان من المفروض والمفترض أن يمارس حقه الشرعي والمشروع في تقرير المصير وينال استقلاله على غرار بقية المستعمرات الايطالية في أفريقيا، أي ليبيا والصومال، وذلك بعد هزيمة ايطاليا الفاشية في ارتريا أبان الحرب الكونية الثانية على يد جيش الحلفاء في عام 1941.
ولكن ولسوء طالع الشعب الارتري إن الإدارة الأمريكية والحكومة البريطانية في عهدي كل من الرئيسين الأمريكيين فرانكلين روزفلت والرئيس هاري ترومان ورئيس الوزراء بريطانيا ونستون تشرشل، قررتا الالتفاف على حق الشعب الارتري في تقرير المصير، واستغلتا دخول ارتريا تحت انتداب العرش البريطاني لمدة عقد كامل، امتد من عام 1941 إلى عام 1951، بغية ترتيب وتدبير وتخطيط وتنفيذ المؤامرة التاريخية السياسية ضد ارتريا بلدا وشعبا في وسط ركام الحرب العالمية الثانية وفي قلب معمعة اندلاع الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي بقيادة كل من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي السابق على التوالي، وذلك بغية حصول واشنطن على موقع قدم لها في حوض البحر الأحمر وعلى قاعدة عسكرية استخباراتية استعلاماتية في الهضبة الارترية، وتحديدا في اسمرا العاصمة، وهذا ما ترجم عمليا في عام 1953 بتوقيع اتفاقية بين الولايات المتحدة الأمريكية والحكومة الأثيوبية تمتد صلاحيتها لعقدين، ولقد أقامت واشنطن بموجبها قاعدة كانيو في العاصمة الارترية.
هذا المؤتمر ” التوحيدي ” الذي عقد في منطقة أدوبحا، وعوضا عن أن يكون بوتقة انصهار الوحدة الوطنية الارترية، فجر تناقضات غير أساسية كادت أن تعصف بالثورة الارترية. ففي وسط هذا المناخ الملبد بالغيوم الداكنة والمحفوف بالمخاطر والمنزلقات الجمة، انبلج تنظيم قوات التحرير الشعبية في عام 1970 لتصحيح مسار الثورة، فأوقد شعلة الأمل في الشعب الارتري بشقه مجرى تاريخيا جديدا لا يهدف إلى اقتلاع المستعمر وتحرير الأرض وحسب، بقدر ما يرمي في الوقت نفسه إلى تحرير الإنسان من الأفكار البالية والتقليد العتيقة بلوغا للغاية المنشودة والمتمثلة في إنعتاق وتحرر القدرات المبدعة والخلاقة للإنسان الارتري في كل ميادين الحياة السياسية والعسكرية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. ولم يكن طريق قوات التحرير الشعبية مفروشا بالورود، بقدر ما كان عصيا وعصيبا نتيجة لتناقضات كل جناح من أجنحتها الثلاثة من ناحية، ولتناقضات بين أجنحتها الثلاثة الداخلية من ناحية ثانية، ولتناقضاتها المستمرة مع جبهة التحرير الارترية التي انحدرت إلى درك الحرب الأهلية من ناحية ثالثة، ولمواجهتها الشرسة لقوات العدو الأثيوبي التي كانت تتربص بها من ناحية رابعة، ولكن بفضل القوى الوطنية والديمقراطية التي قدمت تضحيات جسيمة وناضلت بقناعة راسخة وعزيمة حازمة وحاسمة، استطاعت في المحصلة الختامية تجاوز العديد من إشكالياتها البنيوية وتحدياتها المصيرية منصهرة في خاتمة المطاف في بوتقة تنظيم الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا في عام 1977.
وبعد عملية مد وجزر مع جبهة التحرير الإرترية ـ المجلس الثوري ـ من ناحية ومع المحتل الأثيوبي وأعوانه من السوفييت وآخرين أيضا من ناحية أخرى دامت أربع سنوات، وانتهت بإنتهاء إحدى فصولها في عام 1981 بانهيار جبهة تحرير ارتريا لجملة أسباب داخلية وخارجية وخروجها من الساحة الارترية، وغدت الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا الفصيل الوحيد في الساحة الارترية يناضل ضد قوات الاحتلال الأثيوبي المدعومة من الاتحاد السوفيتي السابق ومن ألمانيا الشرقية السابقة ومن اليمن الجنوبي السابق. ومن الأهمية بمكان في هذا الصدد التنويه إلى إن الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا عندما رأت إن موازين القوى مالت لصالح العدو، اتخذت قرار الانسحاب الاستراتيجي في عام 1978، وأخلت كل المدن والقرى التي حررتها ما عدا مدينة نقفة حيث توجد قاعدتها الخلفية والأساسية، وأحكمت دفاعاتها في سلسلة جبال الساحل الشاهقة، وأحبطت حملات القوات الأثيوبية الثماني المتتالية من يونيو 1978 لغاية أكتوبر 1986، والتي كانت تهدف لإخماد شعلة الثورة الإرترية، مكبدة إياها خسائر فادحة في الأرواح والمعدات، هذا مما أحبط معنويات جيش الاحتلال الأثيوبي، ومهد الطريق للثورة الإرترية للانتقال الى مرحلة الاستنزاف العسكري والمعنوي للحكومة الأثيوبية وقواتها وحلفائها، قبل شروعها في تنفيذ إستراتيجية الهجوم المضاد والتي توجت في عام 1988 بانهيار جبهة نادو ـ از حيث سقط وللمرة الأولى ثلاثة ضباط في الجيش الأحمر السوفيتي أسرى لدى الجيش الشعبي للجبهة الشعبية لتحرير ارتريا ، واستولى الثوار لأول مرة في تاريخ الثورة الارترية على كميات هائلة من الأسلحة الثقيلة من مدافع بعيدة المدى ودبابات ومدرعات وراجمات الصواريخ ( أرغن ستالين )، والتي عكست العديد من الحسابات العسكرية والسياسية رأسا على عقب، وعليه فلا غرو إذا لم يتردد المؤرخ البريطاني بازيل دافيدسون في مقارنة معركة نادو ـ از بمعركة ديان بيان فو التاريخية.
وأيا كان الأمر، فإن كمية ونوعية الأسلحة الفاتكة التي استولي عليها الثوار في هذه المعركة المفصلية عززت من القدرات العسكرية الارترية، وأهلتها على تحرير ميناء/مدينة مصوع في عام 1990 محطمة من ناحية العمود الفقري للجيش الأثيوبي وقيادته العسكرية والسياسية، وأضحت محط دهشة وتقدير على أكثر من صعيد ولدى أكثر من جهة، وفاتحة من ناحية أخرى الطريق إلى اسمرا العاصمة التي سقطت كثمرة يانعة بين أيدي الجيش الشعبي في 24 مايو 1991، وهكذا تحرر كل التراب الوطني الارتري من هيمنة قوات نظام الاحتلال الأثيوبي، وولجت مرحلة الكفاح العسكري ذاكرة التاريخ من أوسع وانصع أبوابه.
وبعد الانتصار العسكري والسياسي والتاريخي الذي حققته الثورة الارترية على المحتل الأثيوبي بتحرير كامل تراب الوطن، كان بمقدورها إعلان الاستقلال فورا، ولكنها ارتأت وقررت ضرورة إعادة عقارب التاريخ إلى نصابها السياسية الصحيحة بعد مضي أربعة عقود وعام ( 1950 ـ 1991 ) ، بمعالجة الجريمة التاريخية التي ارتكبت ضد الشعب الارتري بمصادرة حقه الشرعي والمشروع في تقرير المصير بعد نهاية الحرب الكونية الثانية وبفرض الاتحاد الفيدرالي المشئوم مع أثيوبيا عنوة عليه من ناحية، وبغية إضفاء الصفة القانونية الدولية على استقلال البلاد من ناحية أخرى، فنظمت في عام 1993 استفتاء حرا ونزيها أشرفت عليه ـ ومن مفارقة الأمور ـ الأمم المتحدة التي صادرت ذلك الحق السياسي والتاريخي والقانوني في عام 1950، ومنظمة الوحدة الأفريقية حينذاك ( الاتحاد الأفريقي راهنا )، وجامعة الدول العربية والاتحاد الأوروبي. وإذ ذاك قال الشعب الارتري كلمته السياسية والتاريخية الفاصلة بنسبة %99،8 ، أي نعم للاستقلال. وهكذا طوت ارتريا صفحة تاريخية من نضالها الطويل والمرير الذي دام ثلاثة عقود كاملة ( 1961 ـ 1991 )، لكي تفتح صفحة معركة إعادة بناء وتعمير الوطن والتي تشق هي الأخرى مجراها التاريخي على قدم وساق.
وخلاصة القول، لقد جسد الفاتح من سبتمبر 1961 بحق وحقيقة، نهاية مرحلة سياسية وتاريخية عصيبة، و سطر بأحرف من نور ودموع ودماء ملحمة تاريخية رائعة ، وفتح رحاب أفاق مرحلة تاريخية جديدة تحت شمس الحرية وسماء الاستقلال، لها خصائصها وتحدياتها المحلية والإقليمية والدولية الراهنة.